عاش المصرى القديم منذ أكثر من 40 ألف عام على ضفاف نهر النيل، وذلك بعد أن كان جوالاً فى غابات مصر خلال العصور الحجرية التى تمتد إلى أكثر من 700 ألف عام قبل الميلاد، حيث كان يعيش فى مجموعات متنقلة تعيش على ما تجود وتزخر به البيئة المصرية حيث شهدت هذه العصور مناخ مطير ساعد على ظهور الغابات كما هو الآن فى المناطق الاستوائية.
ومع نهاية العصور الحجرية وتحول هذا المناخ إلى فترة جفاف، بدأت هذه الغابات والمناطق الخضراء تتحول تدريجيًا إلى صحارى غطت معظم الأراضى المصرية وبدأت تتحدد معالم مصر الجغرافية الحالية واقتصار المساحات الخضراء على وادى نهر النيل كمصدر رئيس للمياه فى مصر وقليل من الواحات المتناثرة فى الصحراء الغربية ويخترق هذا الوادى نهر النيل من الجنوب إلى الشمال حاملاً معه الغرين، يرسبه يمينًا ويسارًا ويخلق منه وادى خصب، مما دعا المصرى القديم الجوال إلى الاستقرار والإقامة الدائمة بجوار النهر، مما ساعد على إقامة الحضارات القديمة وتتوالى العصور حتى بدايات العصور الحجرية الحديثة وعصور ما قبل التاريخ وقبيل الأسرات ثم العصور التاريخية. هذا الاستقرار ساعد المصرى القديم على التأمل فى بيئته وحياته ومستقبله.
ومن أهم ما شغل بال المصرى هو نهاية حياته الدنيوية وكان الموت هو الحقيقة الوحيدة فى حياته. فكل إنسان ولابد له نهاية وهى الموت وهو ما عبر عنه فى اللغة المصرية ب(موت) بمخصص رجل وقد رقد على وجه ممتدًا على الأرض.
وتسائل كثيرًا ما هو الموت؟ وماذا بعد الموت؟ هل هو النهاية للحياة الأولى؟ أم بداية حياة أخرى، وقد وجد الإجابة من البيئة المحيطة به. وجد الإجابة دون أن يسألها. فقد أتاح له الاستقرار بعد التجول، الفرصة للتأمل، فوجد أن الشمس والنجوم والقمر تظهر، ثم تختفى ثم تظهر فتختفى فى حلقات مستمرة وكذلك نهر النيل يفيض سنويا ثم يستقر، ثم يشح، ثم يفيض مرة أخرى وهكذا. كذلك الزروع والنباتات تنمو ثم يجنيها ثم تنمو مرة أخرى وساعد كذلك على هذا اكتشافه الزراعة حيث يرى البذرة تنبت شجرة ثم تعطى بذراً فيزرعها فتعطى شجرًا وهكذا.
كما قارن بين نفسه وبين عناصر البيئة حوله. فهو أحد عناصر البيئة وأهمها. فتسائل هل يمكن أن تكون له بداية ثانية بعد الموت. وبدأ يضع التصورات لهذه الحياة . فأيقن أن هناك حياة ما بعد الوفاة وهذه الحياة حتمية أكيدة، لكنه فى نفس الوقت وجد أن الجسد يفنى بعد الموت، فتسائل كيف يحيى مرة أخرى بدون جسد، فكان لابد من الحفاظ على هذا الجسد أى التجسيد المادى له.
وبعد العديد من المحاولات الفاشلة نجح فى التوصل إلى عملية تحنيط الجسد التى سارت من أهم العادات الجنائزية خاصة خلال العصور التاريخية ورأى أن الجسد ليس فقط المعنى بالحياة الثانية، ولكن هناك ـ أيضًا ـ الروح والتى أطلق عليها ( با) وهى غير الجسد الذى أطلق عليه (خت)، فالروح هى القوة الكامنة فى الجسد، وهى المحرك له والتى تهجره بعد الوفاة. وهنا السؤال كيف توصل المصرى القديم إلى معرفة أن لكل جسد روح ؟ وهو لم ير من قبل أو من بعد إلى يومنا هذا روح تخرج من الجسد والتى جاء ذكرها فى القرآن الكريم "ويسألونك عن الروح، قل هى من أمر ربى " الآية.
وتعتبر الروح سر لم يطلع الله بشر عليه. فكيف علم المصرى أن هناك روحًا للجسد؟ وللإجابة على هذا السؤال نجد أن مصر أرض الكنانة زارها العديد من أنبياء الله ورسله وكان أولهم " شيث" بن "آدم" عليه السلام و"إبراهيم" وابنه "إسماعيل" وتزوجا من مصر ثم " يعقوب" وأولاده ومنهم "يوسف" ثم "موسى" كليم الله عليهم جميعا سلام الله . فإلى جانب هؤلاء الرسل ودعوتهم إلى عبادة الله الواحد الأحد كان هناك مصدر آخر ممتد إلى " آدم " عليه السلام أبى البشر، فتوارث جيل بعد جيل من المصريين القدماء، معتقدات كثيرة عن الموت والحساب والعالم الآخر، وأن كان بمرور الوقت صاغها المصرى القديم بإسلوبه ومنهجه.
فعلم أن هناك روح تلك التى أطلق عليها "با"، وهى تترك الجسد بعد الوفاة وتصعد إلى السماء. وهو ما دعاه إلى تجسدها على هيئة طائر أو عصفور أخضر له رأس المتوفى، ويحمل وجه ولكن إلى أين تتجه هذه الروح ؟ وهو وارد فى جميع الأديان السماوية.
درس المصرى القديم السماء بدقة ورصد نجومها ورسم دائرته الفلكية المشهورة، ولكنه لاحظ أن النجم القطبى الشمالى هو منتصف ومركز السماء وتدورحوله المجرات والنجوم والكواكب، فهداه فكرة إلى أن ثبات هذا النجم وعدم تغيير مكانه، فى حين أن كل النجوم تدور حوله، هو رمز للأبدية والسرمدة. فاعتقد أن الأرواح تصعد إلى السماء إلى هذا النجم ثم تعود مرة أخرى إلى الأجساد لتحى مرة أخرى.
أيضًا أعتقد المصرى أنه لابد من حفظ اسم المتوفى ـ أيضًا ـ حيث إن الاسم والذى أطلق عليه (رن) جزء من كيان المتوفى يعرف به طوال حياته، فلابد وأن يحافظ عليه فكان يسجله خارج وداخل مقبرة وعلى توابيته من الداخل والخارج وكذلك على أثاثه الجنائزى وحليته كمثال الملك (توت عنخ آمون).
كذلك اهتم المصرى القديم بالقلب والذى أطلق عليه "إيب" والقلب من أهم أعضاء الجسم البشرى اللازم للحياة وقد حرص عليه المصرى القديم بعد الوفاة بإخراجه من الصدور وتحنيطه، ثم إعادته مرة أخرى إلى مكانه بالصدر مرة أخرى. وذلك لاعتقاده بانه مصدر الخير ومصدر الشر فى الإنسان ومن خلاله يُعرف الإنسان بصلاحه أو فساده ومن خلال وزن القلب أثناء محاكمة المتوفى أمام "أوزيريس" رب العالم الآخر حسب العقيدة المصرية، يتم معرفة مصيره الجنة أوالنار، حيث إن القلب هو الذى يحب وهو الذى يكره وهو الذى يحمل الضغينة أو الحب.
فأعتقد أن الأعمال الخيرة أو السيئة مصدرها القلب، بل أن القلب هو الوعاء الذى يحوى أعمال الإنسان السيئة فيصبح ثقيل، كما نقول فى أيامنا هذه: "قلب أسود" أو " قلب حجر"، وعند وزنه بالميزان يضع القلب فى كفة فى حين أن الكفة الأخرى بها رمز الالهة (ماعت) وهى آلهة العدالة والقسط ورمزها الريشة فإن كان هذا القلب الموزون يساوى هذا الرمز فهو يعتبر خفيف، خال من الآثام والذنوب، فمصير صاحبه الجنة والذى أطلق عليها اسم "يارو" حقول إله العالم الآخر أوزيريس، ينعم ويهنأ فيها. أما إذا وجد القلب ثقيل أى ملئ بالآثام والذنوب فمصيره الجحيم أو "سدج" أى النار.
والتى صورت على هيئة بحيرة نارية تحوطها سور سميك أسود ليس له باب ويحيطه من الخارج عشرات من ثعابين الكوبرا، ثم سور آخر على جوانبه الأربعة علامة النار أو الجحيم (سدج) فى حين مثل فى الأربع أركان أربعة حراس على هيئة أربعة قرود جالسين على كراسى لمنع هروب الآثمين، إذ ما حاولوا الهروب بعد إلقائهم فى الجحيم. وهذا عكس الجنة والتى أطلقوا عليها "يارو" والتى مثلت بأنهار تجرى تحت الأرض وبها جنات وعيون للماء وغيرها وفيها ينعم على الصالحين بكافة أنواع الأطعمة والمشروبات حيث صوروا وأمامهم موائد القرابين ومثل وهم يحرثون حقول " يارو" ويعيشون فى سلام مع الالهة.
أما باقى الأعضاء والتى تتكون من الكبد والأمعاء والمعدة والرئتين، فقد تم إخراجها من الجسد وتحنيطها وحفظها فى أوانى خاصة أطلق عليها الأوانى الكانوبية نسبة إلى مدينة كانوب بالقرب من الاسكندرية ومثلت أغطيتها بوجه المتوفى، ثم مثلت على هيئة رءوس أولاد حورس الأربعة، (قبح سنو اف– دوا موت اف– حابى– اميستى)، فى حين تم نزع العينين من الوجه وكذلك تم استخراج المخ من خلال فتحتى الأنف وإحداث ثقب فى أعلى الجمجمة.
وبين الموت والمحاكمة أمام "أوزير" رب العالم الآخر هناك القبر الذى أعده المتوفى لنفسه قبل الوفاة وماتراوح ما بين دفنات صغيرة وحجرات ومصاطب والأهرامات، اختلف الشكل، و لكن الهدف واحد وهو الحفاظ على الجسد بعد الوفاة من التلف. ونجد أن هذا القبر زود بأبواب وهمية تزين الأجزاء العلوية من القبر، وهى ـ أيضًا ـ ما يطلق عليها أبواب الأرواح وهى تمثيل فى الحجر أو الخشب لشكل الأبواب سجل عليها صور المتوفى صاحب القبر وأسمائه وألقابه،
والغرض من ذلك التسهيل على الروح لمعرفة قبرها المسجى به جسدها، ثم تدخل منه إلى داخل القبر، ثم إلى البئر الموصل إلى غرفة الدفن، وهذا ما رسمه المصرى القديم بيده فى برديات كتب "الموتى"، وما هو موجود فى العالم الآخر حيث صور الروح فى هيئة عصفور أخضر برأس صاحب المقبرة تنزل إلى غرفة الدفن لتعود إلى جسدها لتحيا مرة أخرى.
كذلك زينت أبواب الأرواح بمناظر العطايا وحاملى القرابين وتتجه وجوههم إلى داخل أبواب الأرواح، حيث تخرج الروح ليلاً لتلقى هذه العطايا كما يعتقد المصرى القديم.
ولكن ما فكرة المصرى عن وجود المتوفى بالقبر وكيف يخرج منه، حيث حفظ الممياء داخل التابوت بغرفة الدفن ؟ وكيف سيخرج منها ؟
اعتقد المصرى القديم أن الإقامة بالقبر ما هى إلا إقامة مؤقتة لفترة محدودة لا يعلم مداها حيث اعتبر قبره منزل آخر له ، للإقامة المؤقتة فكان لابد من تزويد القبر بكل ما كان يحتاجه ويستعمله فى حياته الدنيوية ، فتجد فى مقبرة المملكة " حتب حرس " أم الملك " خوفو" 2620 ق.م، تحتوى على أثاثها من نموسية وسرير وكرسى وصناديق الحلى وأدوات للمأكولات ومحفة، وكذلك مقبرة " توت عنخ آمون " بكل ما فيها من أثاث وأدوات وأوانى وخلافه وكل ما كان يستخدمه فى العالم الآخر احتفظ به فى القبر لإعادة استخدامه فى هذه الإقامة المؤقتة.
فعند عودة الروح إلى الجسد سوف يحيى الإنسان المتوفى وككائن حى لابد من استخدامه هذه الأشياء فيخرج ليلاً لتلقى ما أعطى له ثم يعود مرة أخرى ليحى بقبره يأكل ويشرب ولكن كيف سيخرج من التابوت، المحكم الغلق. فقد اعتقد أنه بقوة سحرية سوف يفتح التابوت وكذلك القبر ليذهب إلى العالم الآخر
و لكن ماذا بعد هذه الإقامة المؤقتة؟ إعتقد المصرى القديم أن هناك يوم للحساب فى مملكة " أوزير" رب العالم الآخر فهو سوف يخرج بعدها إلى هذه المحاكمة، التى تنصب له أمام 42 إلهًا ويرأسهم " أوزير " حيث يتم وزن قلبه فى ميزان بواسطة "حورس" و أنوبيس" أمام رمز العدالة "ماعت" حيث يوضع القلب فى كفة ورمز الحق والعدالة فى كفة وهى الريشة أو رمز الآلهة "ماعت" وإذا كان الوزن متماثل فهذا يدل على براءة المتوفى من الآثام
أما ثقل قلبه فمعناه إدانته بارتكاب المعاصى. وفى هذه الحالة يلقى بالقلب إلى ال "عمو" ليلتهم القلب وهو حيوان برأس تمساح ومقدمة أسد ومؤخرة سبع البحر، وهذا ما يعنى فقدان المتوفى لحياته سواء البحر أو النهر وعلى الأرض فليس له مجال للنجاة بحياته. أما الجسد فيلقى فى بحيرة النار ال " سدج".
و من هنا نجد أن موضوع الموت وما بعد الموت كان مسيطراً على فكر وعقل المصرى القديم، فأعمل الفكر والتأمل والتخيل مما صور له خياله كل هذه المعتقدات التى سجلها على جميع آثاره، سواء أوراق البردى فيما عرف ب "كتاب الموتى" وكتاب "ما هو موجود فى العالم الآخر" وكتاب "البوابات". وكذلك على جوانب التوابيت والمقابر وكذلك ما قام به من عادات وتقاليد للدفن وما بعده.
وأخيراً استقر على أن حياته الدنيوية مجرد بداية لحياته السرمدية الأبدية فى العالم الاخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق